فصل: تفسير الآيات (122– 123):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}.
أخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله: {الذين أتيناهم الكتاب} قال: هم اليهود والنصارى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والهروي في فضائله عن ابن عباس في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ {والقمر إذا تلاها} [الشمس: 2] يقول: اتبعها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوّذ بالله من النار.
وأخرج الخطيب في كتاب الرواة عن مالك بسند فيه مجاهيل عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: يتبعونه حق اتباعه.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير من طرق عن ابن مسعود قال: في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: أنّ يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا غير تأويله. وفي لفظ: يتبعونه حق اتباعه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: يتكلمونه كما أنزل الله ولا يكتمونه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} قال: منهم أصحاب محمد الذين آمنوا بآيات الله وصدقوا بها. قال: وذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: والله إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرفه عن مواضعه. قال: وحدثنا عن عمر بن الخطاب قال: لقد مضى بنو إسرائيل وما يعني بما تسمعون غيركم.
وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله: {يتلونه حق تلاوته} قال: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد {يتلونه حق تلاوته} قال: يتبعونه حق اتباعه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فائدة في الفرق بين القراءة والتلاوة:

التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعدا والقراءة تكون للكلمة الواحدة يقال قرأ فلان اسمه ولا يقال تلا اسمه وذلك أن أصل التلاوة اتباع الشيء الشيء يقال تلاه إذا تبعه فتكون التلاوة في الكلمات يتبع بعضها بعضا ولا تكون في الكلمة الواحدة إذ لا يصح فيها التلو. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}.
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى.. أن اليهود والنصارى قد حرفوا كتبهم، أراد أن يبين أن هناك من اليهود والنصارى من لم يحرفوا في كتبهم.. وأن هؤلاء يؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام وبرسالته.. لأنهم يعرفونه من التوراة والإنجيل. ولو أن الله سبحانه لم يذكر هذه الآية لقال الذين يقرأون التوراة والإنجيل على حقيقتيهما.. ويفكرون في الإيمان برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لقالوا كيف تكون هذه الحملة على كل اليهود وكل النصارى ونحن نعتزم الإيمان بالإسلام.. وهذا ما يقال عنه قانون الاحتمال.. أي أن هناك عددا مهما قل من اليهود أو النصارى يفكرون في اعتناق الإسلام باعتباره دين الحق.. وقد كان هناك جماعة من اليهود عددهم أربعون قادمون من سيناء مع جعفر بن أبي طالب ليشهدوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قرأوا التوراة غير المحرفة وآمنوا برسالته.. وأراد الله أن يكرمهم ويكرم كل من سيؤمن من أهل الكتاب.. فقال جل جلاله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} من الآية 121 سورة البقرة.
أي يتلونه كما أنزل بغير تحريف ولا تبديل.. فيعرفون الحقائق صافية غير مخلوطة بهوى البشر.. ولا بالتحريف الذي هو نقل شيء من حق إلي باطل. يقول الله تبارك وتعالى: {أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}.. ونلاحظ أن القرآن الكريم يأتي دائما بالمقارنة.. ليكرم المؤمنين ويلقى الحسرة في نفوس المكذبين.. لأن المقارنة دائما تظهر الفارق بين الشيئين. إن الله سبحانه يريد أن يعلم الذين آتاهم الله الكتاب فلم يحرفوه وآمنوا به.. ليصلوا إلي النعمة التي ستقودهم إلي النعيم الأبدي.. وهي نعمة الإسلام والإيمان.. مقابل الذين يحرفون التوراة والإنجيل فمصيرهم الخسران المبين والخلود في النار. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب}.
رفع بالابتداء، وفي خبره وجهان:
أحدهما: {يَتْلُونَهُ}، وتكون الجملة من قوله: {أولئِكَ يُؤْمِنُونَ}: إما مستأنفة وهو الصحيح.
وإما حالًا على قول ضعيف مثله أو السورة.
والثاني: أن الخبر هو الجملة من قوله: {أولئِكَ يُؤْمِنُونَ}.
ويكون {يَتْلُونَهُ} وتكون الجملة في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في {آتيْنَاهُمْ} وإما من الكتاب، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين، ولا كان الكتاب متلوًّا.
وجوز الحوفي أن يكون {يتلونه} خبرًا، و{أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ} خبرًا بعد خبر، قال: مثل قولهم: هذا حلو حامض كأنه يريد جعل الخبرين في معنى واحد، هذا إن أريد ب {الذين} قوم مخصوصون.
وإن أريد بهم العموم، كان {أولئِكَ يُؤْمِنُونَ} الخبر.
قال جماعة منهم ابن عطية رحمه الله وغيره و{يَتْلُونَهُ} حالًا يستغنى عنها، وفيها الفائدة.
وقال أيضًا أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون {يَتْلُونَهُ} خبرًا؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان: ونقول: ما لزم من الامتناع مِنْ جَعْلِهَا خبرًا يلزم من جعلها حالًا؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة.
قوله تعالى: {حَقَّ تِلاَوَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نصب على المصدر وأصله: تلاوةً حقًّا ثم قدم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير ضربت شديد الضرب أي: ضَرْبًا شديدًا. فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه.
الثاني: أنه حال من فاعل {يَتْلُونَهُ} أي: يتلونه محقين.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف.
وقال ابن عطية: و{حَقَّ} مصدر، والعامل فيه فعل مضمرن وهو بمعنى أفعل، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف، إنما جازت هنا؛ لأن تَعَرُّفَ التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل وَاحِدُ أُمِّه وَسِيجُ واحده يعني: أنه في قوة أفعل التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة، وكأنه يرى أن إضافة أفعل غير محضة، ولاحاجة إلى تقدير عامل فيه؛ لأن ما قبله يطلبه. والضمير في {به} فيه أربعة أقوال:
أحدهما وهو الظاهر: عوده على الكتاب.
الثاني: عوده على الرسول، قالوا: ولم يَجْرِ له ذكر لكنه معلوم، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار، فإنه مذكور في قوله: {أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة: 119]، إلا أن فيه التفاتًا من خطاب إلى غيبة.
الثالث: أنه يعود على الله تعالى، وفيه التفات أيضًا من ضيمر المتكلّم المعظم في قوله: {أَرْسَلْنَاكَ} إلى الغيبة.
الرابع: قال ابن عطية: إنه يعود على الهدى وقرره بكلام حسن. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآيات (122– 123):

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}.

.كلام نفيس ذكره البقاعي في مناسبة هذه الآيات الكريمة وما بعدها لما قبلها:

قال رحمه الله ما نصه:
ولما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ثم في بيان عوارهم وهتك أستارهم وختم ذلك بالترهيب بخسارهم لتضييع أديانهم بأعمالهم وأحوالهم وأقوالهم أعاد ما صدر به قصتهم من التذكير بالنعم والتحذير من حلول النقم يوم يجمع الأمم ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة والمقصود بالذات في الحث على انتهاز الفرصة في التفصّي عن حرمة النقص إلى لذة الربح بدوام الشكر. قال الحرالي: فلبعده بالتقدم كرره تعالى إظهارًا لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلًا لما يمكن أن يرد من نحوه في سائر القرآن حتى كأن الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمة يجب أن يلحظ القلب بداية تلك الغاية فيتلوها ليكون في تلاوته جامعًا لطرفي البناء وفي تفهمه جامعًا لمعاني طرفي المعنى؛ انتهى- فقال تعالى: {يا بني إسرائيل} أي ولد الأنبياء الأصفياء ووالد الأنبياء السعداء {اذكروا نعمتي} أي الشريفة بالنسبة إليّ {التي أنعمت عليكم} بها في الدنيا {وأني فضلتكم} واقتصر هنا على نعمة التفضيل ولم يذكر الوفاء الذي هو فضيلة النفس الباطنة إشارة إلى جمودهم باقتصارهم على النظر في الظاهر على {العالمين} في تلك الأزمان كلها بإتمام نعمة الدنيا بشرع الدين المقتضى للنعمة في الأخرى، فإنكم إذا ذكرتم النعمة شكرتموها فقيدتموها واستوجبتم من الله الزيادة في الدنيا والرضى في العقبى {واتقوا يومًا لا تجزي} أي تقضى، أي يصنع فيه {نفس عن نفس شيئًا} أي من الجزاء.
ولما ختمت الآية الماضية بحصر الخسارة فيهم ناسب تقديم نفي القبول فقال: {ولا يقبل منها عدل} يبذل في فكاكها من غير الأعمال الصالحة {ولا تنفعها شفاعة} غير مأذون فيها {ولا هم ينصرون} وإن كثرت جموعهم. قال الحرالي: أجراها تعالى في هذا التكرار على حدها في الأول إلا ما خالف بين الإيرادين في قوله: {واتقوا يومًا} إلى آخره ليجمع النبأ في كل واحد من الشفاعة والعدل بين مجموع الردين من الأخذ والقبول فيكون شفاعتها لا مقبولة ولا نافعة، ويكون عدلها لا مأخوذًا ولا مقبولًا، ذلك لأن المعروض للقبول أول ما يؤخذ أخذًا بحسبه من أخذ سمع أو عين، ثم ينظر إليه نظر تحقيق في المسموع وتبصر في المنظور، فإذا صححه التحقيق والتبصير قُبل، وإذا لم يصححه رد، وإنما يكون ذلك لمن في حاله حظ صحة ظاهرة لا يثبت مع الخبرة، فأنبأ تعالى بمضمون الآيتين الفاتحة والخاتمة أن هؤلاء ليس في حالهم حظ صحة البتة لا في شفاعة ولا في عدل فلا يقبل ولا يؤخذ إنباء بغرائه عن لبسه ظاهر صحة يقتضي أخذه بوجه مَّا، ففيه تبرئة ممن حاله حال ما نبّئ به عنهم على ما تقدم معناه في مضمون الآية، وبهذه الغاية انصرف الخطاب عنهم على خصوص ما أوتوا من الكتاب الذي كان يوجب لهم أن يتديّنوا بقبول ما جاء مصدقًا لما معهم فاتخذوا لهم بأهوائهم ملة افتعلتها أهواؤهم، فنظم تعالى بذلك ذكر صاحب الملة التي يرضاها وافتتح بابتداء أمره في ابتلائه ليجتمع عليهم الحجتان السابقة بحسب الملة الحنيفية الإبراهيمية واللاحقة بحسب الدين المحمدي، كان صلى الله عليه وسلم يقول في الصباح: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم» فخص المحمدية بالدين والإبراهيمية بالملة لينتظم ابتداء الأبوة الإبراهيمية بطوائف أهل الكتاب سابقهم ولاحقهم بنبأ ابتداء الأبوة الآدمية في متقدم قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}- الآيات لينتظم رءوس الخطابات بعضها ببعض وتفاصيلها بتفاصيلها، وليكون إظهار ذلك في سورة سنام القرآن أصلًا لما في سائره من ذلك، وذكر قبل ذلك أن الملة ما يدعو إليه هدى العقل المبلغ عن الله توحيده من ذوات الحنيفيين، وأن الدين الإسلام، والإسلام إلقاء ما باليد ظاهرًا وباطنًا، وذلك إنما يكون عن بادي غيب التوحيد. انتهى.
سؤال: لم كرر هذه الآية؟
الجواب: كررها في أول السورة وهنا للتوكيد وتذكير النعم. اهـ.
وقال الآلوسى: تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: الآيات 106- 110]:

{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها}.
روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ فنزلت.
وقرئ {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} وما ننسخ: بضم النون، من أنسخ. أو ننسأها.
وقرئ {نُنْسِها} وننسها بالتشديد. وتنسها وتنسها، على خطاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وقرأ عبد اللَّه. ما ننسك من آية أو ننسخها وقرأ حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها. ونسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها وإنساخها.
الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها.
ونسؤها، تأخيرها وإذهابها. لا إلى بدل. وإنساؤها أنّ يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى أن كل آية يذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل نَأْتِ بآية خير منها للعباد، أى بآية العمل بها أكثر للثواب أو مثلها في ذلك {عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يقدر على الخير، وما هو خير منه، وعلى مثله في الخير {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ. لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره، وقررهم على ذلك بقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم وأن لا يقترحوا على رسولهم ما اقترحه آباء اليهود على موسى عليه السلام من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالا عليهم كقولهم: اجعل لنا إلها، أرنا اللَّه جهرة، وغير ذلك {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ} ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة، وشك فيها، واقترح غيرها {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} روى أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرًا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم يروا ما أصابكم. ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلا فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد. قال: فإنى قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت: فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت باللَّه ربا، وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأخبراه فقال: أصبتما خيرا وأفلحتما. فنزلت.
فإن قلت: بم تعلق قوله: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يتعلق بودّ، على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم، لا من قبل التدين والميل مع الحق، لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟
وإما أن يتعلق بحسدا، أى حسدا متبالغا منبعثا من أصل أنفسهم {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الذي هو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يقدر على الانتقام منهم {مِنْ خَيْرٍ} من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} تجدوا ثوابه عند اللَّه {إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} عالم لا يضيع عنده عمل عامل.